الأموال الساخنة
تُعد الأموال الساخنة من أكثر الظواهر المثيرة للجدل في الاقتصاد العالمي المعاصر، فهي تمثل نوعاً من رؤوس الأموال التي تتحرك بسرعة بين الدول بحثاً عن الربح السريع دون ارتباط حقيقي بالإنتاج أو التنمية. إن هذه الأموال تشبه تيارات الماء الحارة التي تتدفق فجأة في مجرى الاقتصاد لتمنحه حرارة مؤقتة، لكنها قد تتركه بعد ذلك يعاني الجفاف والاضطراب. تُعرف الأموال الساخنة على أنها: تلك الاستثمارات القصيرة الأجل التي تدخل الأسواق المالية بغرض الاستفادة من فروق أسعار الفائدة أو من تقلبات أسعار الصرف. فالمستثمر الذي يملك رأس مال كبير نسبياً يبحث دائماً عن المكان الذي يمنحه أعلى عائد في أقصر وقت ممكن، وعندما تتغير الظروف الاقتصادية أو تظهر إشارات عدم الاستقرار يسحب أمواله سريعاً لينتقل إلى سوق آخر أكثر أماناً وربحية. ولهذا السبب تكتسب هذه الأموال صفة الحرارة، لأنها لا تستقر في مكان واحد بل تتحرك بخفة وسرعة متأثرة بأي تغير في المناخ المالي العالمي.
في ظاهر الأمر تبدو هذه الأموال كنعمة على الدول الحاضنة لها، فهي تضخ سيولة كبيرة في الأسواق وتدعم قيمة العملة المحلية، لكن هذه الفوائد غالباً ما تكون مؤقتة وزائفة لأنها لا تعتمد على استثمار حقيقي طويل الأمد بل على مضاربات مالية تبحث عن مكاسب سريعة. وعندما تفقد تلك الأموال ثقتها في السوق، تنسحب فجأة تاركة خلفها فراغاً مالياً حاداً يؤدي إلى انخفاض العملة وارتفاع الأسعار واضطراب الأسواق. ولقد شهد العالم نماذج واضحة لهذه الظاهرة مثل الأزمة الآسيوية 1997، والأزمة المالية العالمية 2008، وأزمة الديون السيادية في اليونان 2010، فقد أدت التدفقات المفاجئة لرؤوس الأموال الساخنة إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية.
تعاني الاقتصادات النامية من آثار التدفقات المفاجئة لأنها غالباً ما تمتلك نظماً مالية ضعيفة واحتياطيات محدودة من النقد الأجنبي. لذلك، فإن دخول الأموال الساخنة إليها يعطي انطباعاً زائفاً بالازدهار، لكنها في الواقع تخلق هشاشة داخلية تجعل الاقتصاد عُرضة للتقلبات العالمية. وما إن تغادر هذه الأموال حتى تظهر المشكلات بوضوح في شكل عجز في الميزان التجاري وتراجع في الاستثمار الإنتاجي وارتفاع في معدلات التضخم وزيادة البطالة مع ظهور مشاكل اجتماعية.
تحاول الحكومات الحد من تأثير هذه الأموال من خلال فرض قيود على حركة رؤوس الأموال قصيرة الأجل، أو سنّ ضرائب على المضاربات المالية السريعة، أو تعزيز الشفافية والسياسات النقدية المستقرة. فكلما كان الاقتصاد أكثر انضباطاً واستقراراً قلت جاذبيته للمضاربين وزادت قدرته على جذب الاستثمارات الحقيقية الطويلة الأمد. كما أن بناء احتياطي نقدي قوي يساعد على امتصاص الصدمات الناتجة عن الانسحابالمفاجئ للأموال.برأيي،إن الأموال الساخنة سيف ذو حدين فهي توفر دعماً مالياً قصير الأمد وتمنح الأسواق دفعة مؤقتة، لكنها قادرة على زعزعة الاستقرار إذا لم تُدار بحذر. فالتحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذه التدفقات السريعة من خطر محتمل إلى فرصة مؤقتة تُستخدم بذكاء دون أن تتحول إلى حريق اقتصادي يصعب إخماده.
